فصل: الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


فمن هم الذين أنعم الله عليهم‏؟‏

قسرها تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، فهؤلاء أربعة أصناف‏.‏

من النبيين‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ النبيون‏:‏ وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم فهو داخل في هذه الآية‏:‏ فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً وعلى هذا فيكون النبيون شامالً للرسل أولي العزم وغيرهم شاملاً أيضاً للنبيين الذين لم يرسلوا وهؤلاء أعلى أصناف الخلق‏.‏

والصديقين‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الصديقون‏:‏ جمع صديق على وزن فعيل صيغة مبالغة‏.‏

فمن هو الصديق‏؟‏

أحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدق به‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏، وقال تعالى ‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 19‏]‏، فمن حقق الإيمان ـ ولا يتم تحقيق الإيمان إلا بالصدق والتصديق ـ فهو صديق‏:‏

الصدق في العقيدة‏:‏ بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء حتى قال بعض السلف‏:‏ ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، فلا بد من الصدق في المقصد ـ وهو العقيدة ـ والإخلاص لله عز وجل‏.‏

الصدق في المقال‏:‏ لا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته‏.‏‏.‏ وغيرهم‏.‏

الصدق في الفعال‏:‏ وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومن صدق الفعال أن تكون تابعة عن إخلاص، فإن لم تكن نابعة عن إخلاص، لم تكن صادقة لأن فعله يخالف قوله‏.‏

فالصديق إذاً من صدق في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي مقاله وفي فعاله‏.‏

وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه‏.‏

والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم‏:‏ ‏{‏وأمه صديقة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏، ويقال‏:‏ الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده‏.‏

والشهداء‏(‏1‏)‏ والصالحين‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الشهداء قيل‏:‏ هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء‏}‏ وقيل‏:‏ العلماء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ ولو قال قائل‏:‏ الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملاً للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت‏.‏

‏(‏2‏)‏ الصالحون يشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص‏.‏

والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا على المرتبة السابقةـ النبوة والصديقية والشهادة ـ، فهم دونهم في المرتبة‏.‏

هذا الصراط الذي جاءت به الرسل هو صراط هؤلاء الأصناف الأربعة، فغيرهم لا يمشون على ما جاءت به الرسل‏.‏

وقد دخل في هذه الجملة‏(‏1‏)‏ ما وصف الله به نفسه في سورة‏(‏2‏)‏ الإخلاص‏(‏3‏)‏ التي تعدل ثلث القرآن‏(‏4‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قوله‏:‏ ‏"‏دخل في هذه الجملة‏"‏ يحتمل أنه يريد بها قوله‏:‏ ‏"‏وهو قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات‏"‏ ويحتمل أن يريد ما سبق من أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله، وأياً كان، فإن هذه السورة وما بعدها داخلة في ضمن ما سبق، من أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وأن أهل السنة يؤمنون بذلك‏.‏

‏(‏2‏)‏‏:‏ ‏(‏السورة‏)‏‏:‏ هي عبارة عن آيات من كتاب الله مسورة، أي منفصلة عما قبلها وعما بعدها، كالبناء الذي أحاط به السور‏.‏

‏(‏3‏)‏ إخلاص الشيء، بمعنى‏:‏ تنقيته، يعني‏:‏ التي نقيت ولم يشبهها شيء وسميت بذلك، قيل‏:‏ لأنها تتضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمناً بها، فقد أخلص لله عز وجل وقيل لأنها مخلصة ـ بفتح اللام ـ، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئاً من الأحكام ولا شيئاً من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة بالله والوجهان صحيحان، ولا منافاة بينهما‏.‏

‏(‏4‏)‏ الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه‏:‏ ‏(‏أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلية‏؟‏‏)‏‏.‏ فشق ذلك عليهم وقالوا‏:‏ أينا يطيق ذلك يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله الواحد الصمد ثلث القرآن‏)‏ (1).‏

فهذه السورة تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، وذلك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فكأنما أعتق أربع أنفس من بني إسماعيل‏)‏ (2)‏، فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال هذا الذكر عشر مرات‏؟‏ فنقول‏:‏ لا يجزئ‏.‏ أما في الجزاء، فتعدل هذا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء‏.‏ ولهذا، لو قرأ سورة الإخلاص في الصلاة ثلاث مرات، لم تجزئه عن قراءة الفاتحة‏.‏

قال العلماء‏:‏ ووجه كونها تعدل ثلث القرآن‏:‏ أن مباحث القرآن خبر عن الله وخبر عن المخلوقات، وأحكام، فهذه ثلاثة‏:‏

1- خبر عن الله‏:‏ قالوا‏:‏ إن سورة‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد‏"‏ تتضمنه‏.‏

2- خبر عن المخلوقات، كالإخبار عن الأمم السابقة، والإخبار عن الحوادث الحاضرة، وعن الحوادث المستقبلة‏.‏

3- والثالث‏:‏ أحكام، مثل‏:‏ أقيموا، آتوا، لا تشركوا‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك‏.‏

وهذا هو أحسمن ما قيل في كونها تعدل ثلث القرآن‏.‏

حيث يقول ‏{‏قل‏(‏1‏)‏ هو‏(‏2‏)‏ الله‏(‏3‏)‏ أحد‏(‏4‏)‏ الله الصمد‏(‏5‏)‏ ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏{‏قل‏}‏‏:‏ الخطاب لكل من يصح خطابه‏.‏

وسبب نزول هذه السورة‏:‏ أن المشركين قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ صف لنا ربك‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة (3).‏ سواء صح السبب أم لم يصح، فعلينا إذا سئلنا أي سؤال عن الله نقول‏:‏ ‏{‏الله أحد ‏(‏1‏)‏ الله الصمد‏}‏‏.‏

‏(‏2‏)‏ ‏{‏هو‏}‏‏:‏ ضمير وأين مرجعه‏؟‏ قيل‏:‏ إن مرجعه المسؤول عنه، كأنه يقول‏:‏ الذي سألتم عنه الله وقيل‏:‏ هو ضمير الشأن و‏{‏الله‏}‏‏:‏ مبتدأ ثان و‏{‏أحد‏}‏‏:‏ خبر المبتدأ الثاني، وعلى الوجه الأول تكون ‏{‏هو‏}‏‏:‏ مبتدأ، ‏{‏الله‏}‏ خبر المبتدأ، ‏{‏أحد‏}‏‏:‏ خبر ثان‏.‏

‏(‏3‏)‏ ‏{‏الله‏}‏‏:‏ هو العلم على ذات الله، المختص بالله عز وجل، لا يتسمى به غيره وكل ما يأتي بعده من أسماء الله فو تابع له إلا نادراً، ومعنى ‏{‏الله‏}‏‏:‏ الإله، وإله بمعنى مألوه أي‏:‏ معبود، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وكما في ‏(‏الناس‏)‏، وأصلها‏:‏ الأناس، وكما في‏:‏ هذا خير من هذا، وأصله‏:‏ أخير من هذا لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فالله عز وجل ‏{‏أحد‏}‏‏.‏

‏(‏4‏)‏ ‏{‏أحد‏}‏‏:‏ لا تأتي إلا في النفي غالباً أو في الإثبات في أيام الأسبوع، يقال‏:‏ الأحد، الإثنين‏.‏‏.‏ لكن تأتي في الإثبات موصوفاً بها الرب عز وجل لأنه سبحانه وتعالى أحد، أي‏:‏ متوحد فيما يختص به في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ‏{‏أحد‏}‏، لا ثاني له ولا نظير له ولا ند له‏.‏

‏(‏5‏)‏ ‏{‏الله الصمد‏}‏‏:‏ هذه جملة مستأنفة بعد أن ذكر الأحدية ذكر الصمدية، وأتى بها بجملة معرفة في طرفيها، لإفادة الحصر، أي‏:‏ الله وحده الصمد‏.‏

فما معنى الصمد‏؟‏

قيل‏:‏ إن ‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ هو الكامل، في علمه في قدرته، في حكمته، في عزته، في سؤدده، في كل صفاته‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ الذي لا جوف له، يعني لا أمعاء ولا بطن، ولهذا قيل‏:‏ الملائكة صمد، لأنهم ليس لهم أجواف، لا يأكلون ولا يشربون‏.‏ هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما(4)‏ ولا ينافي المعنى الأول، لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه، وقيل ‏{‏الصمد‏}‏ يمعنى المفعول، أي‏:‏ المصمود إليه، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، بمعنى‏:‏ تميل إليه وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها، فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد‏.‏

هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضاً فيما يتعلق بالله عز وجل، ولهذا نقول‏:‏ إن المعاني كلها ثابتة، لعدم المنافاة فيما بينها‏.‏

ونفسره بتفسير جامع فنقول‏:‏ ‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهي صامدة إليه‏.‏

وحينئذ يتبين لك المعنى العظيم في كلمة ‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ أنه مستغن عن كل ما سواه، كامل في كل ما يوصف به، وأن جميع ما سواه مفتقر إليه‏.‏

فلو قال لك قائل‏:‏ إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا، كلا، لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسماوات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها فنأخذه من كلمة ‏{‏الصمد‏}‏‏.‏

لو قال قائل‏:‏ هل الله يأكل أو يشرب‏؟‏ أقول‏:‏ كلا، لأن الله صمد‏.‏

وبهذا نعرف أن ‏{‏الصمد‏}‏ كلمة جامعة لجميع صفات الكمال لله وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات وأنها محتاجة إلى الله عز وجل‏.‏

{‏لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ هذا تأكيد للصمدية والوحدانية، وقلنا‏:‏ توكيد، لأننا نفسهم هذا مما سبق فيكون ذكره توكيداً لمعنى ما سبق وتقريراً له، فهو لأحديته وصمديته لم يلد، لأن الولد يكون على مثل الوالد في الخلقة، في الصفة وحتى الشبه‏.‏

لما جاء مجزز المدلجي إلى زيد بن حارثة وابنة أسامة، وهما ملتحفان برداء، قد بدت أقدامها، نظر إلى القدمين‏.‏ فقال‏:‏ إن هذه الأقدام بعضها من بعض (5).‏ فعرف ذلك بالشبه‏.‏

فلكمال أحديته وكمال صمديته ‏{‏لم يلد‏}‏ والوالد محتاج إلى الولد بالخدمة والنفقة ويعينه عند العجز ويبقي نسله‏.‏

‏{‏ولم يولد‏}‏، لأنه لو ولد، لكان مسبوقاً بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف يولد‏؟‏

وإنكار أنه ولد أبلغ من العقول من إنكار أنه والد ولهذا لم يدع أحد أن لله ولداً‏.‏

وقد نفى الله هذا وهذا وبدأ ينفي الولد، لأهمية الرد على مدعيه بل قال‏:‏ ‏{‏ما اتخذ الله من ولد‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏، حتى ولو بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولداً، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولداً وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والداً ولا مولوداً لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏، وإذا انتفى أن يكون له كفواً أحد، لزم أن لا يكون متولداً ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏، أي‏:‏ لا يكافئه أحد في جميع صفاته‏.‏

في هذه السورة‏:‏ صفات ثبوتية وصفات سلبية‏:‏

الصفات الثبوتية‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ التي تتضمن الألوهية، ‏{‏أحد‏}‏ تتضمن الأحدية ‏{‏الصمد‏}‏ تتضمن الصمدية‏.‏

والصفات السلبية‏:‏ ‏{‏لم يلد ولم يولد ‏(‏3‏)‏ ولم يكن له كفواً أحد‏}‏‏.‏

ثلاثة إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية‏.‏

وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قوله‏:‏ ‏"‏وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله‏"‏ وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وهي أعظم آية في كتاب الله‏.‏

والدليل على ذلك‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب، قال‏:‏ ‏(‏أي آية في كتاب الله أعظم‏؟‏‏)‏ فقال له‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ فضرب على صدره، وقال‏:‏ ‏(‏ليهنك العلم أبا المنذر‏)‏ (6).‏

يعني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أبي في كتاب الله عز وجل‏.‏

وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول‏:‏ أما باعتبار المتكلم به، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول‏:‏ أما باعتبار المتكلم به، فإنه لا يتفاضلن لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏‏.‏ إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب، ليست كآية الدين مثلاً مع أن آية الدين أطول منها‏.‏

حيث يقول‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو‏(‏1‏)‏ الحي‏(‏2‏)‏ القيوم‏(‏3‏)‏ ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو‏}‏ في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر‏.‏

‏(‏2‏)‏ أي‏:‏ ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه‏.‏

و‏{‏الحي‏}‏ من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى‏.‏

‏(‏3‏)‏ ‏{‏القيوم‏}‏ على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي مأخوذة من القيام‏.‏

ومعنى ‏{‏القيوم‏}‏، أي‏:‏ أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده‏.‏

ومن معنى ‏{‏القيوم‏}‏ كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى ‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، والمقابل محذوف تقديره‏:‏ كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائماً على غيره، لزم أن يكون غيره قائماً به، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏، فهو إذاً كامل الصفات وكامل الملك والأفعال‏.‏

وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول‏:‏ يا حي‏!‏ يا قيوم‏!‏ وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع‏:‏ هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 2‏]‏، والثالث سورة طه‏:‏ ‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 111‏]‏‏.‏

هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله‏:‏ ‏{‏الحي‏}‏ والسلطاني في قوله‏:‏ ‏{‏القيوم‏}‏، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء‏.‏

‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏(‏1‏)‏‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ السنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل‏:‏ لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر‏.‏

والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام‏)‏ (7) لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار‏.‏

لكن لو قال قائل‏:‏ النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عد مريضاً‏.‏ فنقول‏:‏ كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضاً لكن هو ك مال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص‏.‏

إذاً ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالاً للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالاً في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه‏:‏ ‏{‏وهو يطعم ولا يطعم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏(‏1‏)‏ ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏‏:‏ ‏{‏له‏}‏‏:‏ خبر مقدم‏.‏ ‏{‏وما‏}‏‏:‏ مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقة التأخير وهو الخبر‏.‏ ‏{‏له‏}‏‏:‏ اللام هذه للملك‏.‏ ملك تام، بدون معارض‏.‏ ‏{‏ما في السموات‏}‏‏:‏ من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه ‏{‏وما في الأرض‏}‏‏:‏ من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏السموات‏}‏‏:‏ تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع ‏{‏قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 86‏]‏‏.‏

والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى ‏{‏الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏، مثلهن في العدد دون الصفة وفي السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين‏)‏ (8).‏

من ذا‏(‏1‏)‏ الذي يشفع‏(‏2‏)‏ عنده‏(‏3‏)‏ إلا بإذنه‏(‏4‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏{‏من ذا‏}‏ اسم استفهام أو نقول‏:‏ ‏{‏من‏}‏ اسم استفهام، و ‏{‏ذا‏}‏‏:‏ ملغاة، ولا يصح أن تكون ‏{‏ذا‏}‏‏:‏ اسماً موصولاً في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة‏:‏ من الذي الذي‏!‏ وهذا لا يستقيم‏.‏

‏(‏2‏)‏ الشفاعة في اللغة‏:‏ جعل الوتر شفعاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والشفع والوتر‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلاً‏:‏ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضى بينهم‏:‏ هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة‏.‏

‏(‏3‏)‏ أي‏:‏ عند الله‏.‏

‏(‏4‏)‏ أي‏:‏ إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏‏:‏ لغواً لا فائدة فيه‏.‏

وذكرها بعد قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السموات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام ربوبيته وسلطانه عز وجل‏.‏

وتفيد هذه الجملة أن له إذناً والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأذان من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى ‏{‏بإذنه‏}‏، أي‏:‏ إعلامه بأنه راض بذلك‏.‏

وهناك شروط أخرى للشفاعة‏:‏ منها‏:‏ أن يكون راضياً عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 109‏]‏‏.‏

وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة ‏{‏وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، أي‏:‏ يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم‏.‏

إذا قال قائل‏:‏ ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏(‏1‏)‏ ولا يحيطون بشيء‏(‏2‏)‏ ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، والله عز وجل ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ المستقبل، ‏{‏وما خلفهم‏}‏ الماضي، وكلمة ‏"‏ما‏"‏ من صيغ العموم تشمل كل ماض وكل مستقبل، وتشمل أيضاً ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق‏.‏

‏(‏2‏)‏ الضمير في ‏{‏يحيطون‏}‏ يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء‏.‏

‏{‏من علمه‏(‏1‏)‏ إلا بما شاء‏(‏2‏)‏ وسع كرسيه‏(‏3‏)‏ السموات والأرض‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني‏:‏ أننا لا نعلم شيئاً عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن ‏(‏علم‏)‏ هنا بمعنى معلوم، يعني‏:‏ لا يحيطون بشيء من معلومه، أي‏:‏ مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول‏:‏ إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك‏.‏

‏(‏2‏)‏ يعني إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

‏(‏3‏)‏ بمعنى شمل، يعني‏:‏ أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها‏.‏

‏(‏4‏)‏ الكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما (9):‏ ‏(‏إنه موضع قدمي الله عز وجل‏)‏، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أن السماوات والسبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة‏)‏ (10).‏

هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق‏.‏

‏{‏ولا يؤوده حفظهما‏(‏1‏)‏ وهو العلي‏(‏2‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ يعني‏:‏ لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض‏.‏

وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة‏.‏

‏(‏2‏)‏ ‏{‏العلي‏}‏ على وزن فعيل، وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف‏.‏

وعلو الله عز وجل قسمان‏:‏ علو ذات، وعلو صفات‏:‏

فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء‏.‏

وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، يعني‏:‏ أن صفاته كلها علياً، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه‏.‏

‏{‏العظيم‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏{‏العظيم‏}‏، أيضاً صفة مشبهة، ومعناها‏:‏ ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة‏.‏

وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي‏:‏ الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم‏.‏

وتتضمن من صفات الله ستاً وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء‏.‏

السادسة‏:‏ انفراده بالألوهية‏.‏

السابعة‏:‏ انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته‏.‏

الثامنة‏:‏ عموم ملكه، لقوله‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏‏.‏

التاسعة‏:‏ انفارد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر‏.‏

العاشرة‏:‏ قوة السلطان وكماله، لقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية‏.‏

الثانية عشرة‏:‏ إثبات الإذن من قوله‏:‏ ‏{‏إلا بإذنه‏}‏‏.‏

الثالثة عشرة‏:‏ عموم علم الله تعالى لقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏‏.‏

الرابعة عشرة والخامسة عشرة‏:‏ أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله‏:‏ ‏{‏وما خلفهم‏}‏ ولا يجهل ما يستقبل، لقوله ‏{‏ما بين أيديهم‏}‏‏.‏

السادسة عشرة‏:‏ كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به‏.‏

السابعة عشرة‏:‏ إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين‏.‏

التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون‏:‏ إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق‏.‏

الثانية والثالثة والرابعة والعشرون‏:‏ كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يئوده حفظهما‏}‏‏.‏

الخامسة والعشرون‏:‏ إثبات علو الله لقوله‏:‏ ‏{‏وهو العلي‏}‏ ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عال بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية‏.‏

وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان‏:‏ طائفة قالوا‏:‏ إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا‏:‏ إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل‏.‏

والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، وعلى هذا، فليس عالياً بذاته، بل العلو عندهم علو صفة‏.‏

أما الذين قالوا‏:‏ إنه لا يوصف بجهة، فقالوا‏:‏ لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسماً، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة‏.‏

ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين‏:‏

الوجه الأول‏:‏ إبطال احتجاجهم‏.‏

والثاني‏:‏ إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة‏.‏

1- أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان‏:‏ دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل‏:‏

- أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب‏:‏ القمر معنا، ومحله في السماء‏؟‏ ويقول الرجل‏:‏ زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب‏؟‏ ويقول الضابط للجنود‏:‏ اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال‏؟‏ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبداً، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحياناً‏:‏ هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط‏.‏ ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول‏:‏ إذا حمل متاعه معه‏:‏ متاعي معي وهو متصل به‏.‏ فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول‏:‏ معية الله عز وجل لخلقة تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء‏.‏

- وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول‏:‏ إذا قلت‏:‏ إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه‏:‏

أولاً‏:‏ إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك، وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم‏.‏

ثانياً‏:‏ نقول‏:‏ إذا قلت‏:‏ إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس‏.‏

ثالثاً‏:‏ يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت‏:‏ إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل‏.‏

فتبين بهذا أن قولهم مناف للسمع ومناف للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبداً‏.‏

2- أما الآخرون، فنقول لهم‏:‏

أولاً‏:‏ إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئاً لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفاً للعدم من هذا الوصف‏.‏

ثانياً‏:‏ قولكم‏:‏ إثبات الجهة يستلزم التجسيم‏!‏ نحن نناقشكم في كلمة الجسم‏:‏

ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله‏؟‏‏!‏

أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى بعض لا يمكن أن يقوم إلى باجتماع هذه الأجزاء‏؟‏‏!‏ فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول‏:‏ إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال‏:‏ إن إثبات علوه يستلزم هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول‏:‏ لا قبول‏.‏

أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول‏:‏ إن لله تعالى ذاتاً، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان‏.‏

وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقولك هو على عرشه استوى عز وجل‏.‏

أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة‏.‏

- أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك‏.‏

- أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراراه‏.‏

- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق خلقه‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ‏"‏ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء‏"‏‏.‏

وأما العقل، فإننا نقول‏:‏ كل يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتاً لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقولك إما أن يكون الله في أعلى أو في أسف أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي‏.‏

- وأما الفطرة، فإننا نقول‏:‏ ما من إنسان يقول‏:‏ يارب‏!‏ إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو‏.‏

فتطابقت الأدلة الخمسة‏.‏

وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام‏.‏

السادسة والعشرون‏:‏ إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله‏:‏ ‏{‏العظيم‏}‏‏.‏

ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح‏(‏1‏)‏، وقوله سبحانه‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ هذا طرف من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة استحفاظ النبي صلى الله عليه وسلم إياه على الصدقة، وأخذ الشيطان منها وقوله لأبي هريرة‏:‏ إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فأخبر أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏ ‏(‏إنه صدقك، وهو كذوب‏)‏ (11).‏

‏(‏2‏)‏ هذا معطوف على ‏(‏سورة‏)‏ في قول المؤلف‏:‏ ‏"‏ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص‏"‏‏.‏

‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏{‏الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏‏:‏ هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولاً وآخراً وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية‏.‏

‏{‏الأول‏}‏‏:‏ فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ ‏(‏الذي ليس قبله شيء‏)(12).‏

وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا‏؟‏

فنقول‏:‏ فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال‏:‏ هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني‏.‏

‏{‏والآخر‏}‏‏:‏ فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ ‏(‏الذي ليس بعده شيء‏)‏، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى ‏{‏الآخر‏}‏ أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته‏.‏

‏{‏والظاهر‏}‏‏:‏ من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏، أي‏:‏ ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عال عليها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 97‏]‏، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها‏:‏ ‏(‏الذي ليس فوقه شيء‏)‏، فهو عال على كل شيء‏.‏

‏{‏والباطن‏}‏‏:‏ فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏(‏الذي ليس دونه شيء‏)‏ وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب‏.‏

تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابله، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلاً‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الودود ‏(‏14‏)‏ ذو العرش المجيد ‏(‏15‏)‏ فعال لما يريد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14-16‏]‏‏:‏ هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحياناً تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها‏:‏

أولاً‏:‏ توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلاً، والأصل ثابت‏.‏

ثانياً‏:‏ إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى ‏(‏1‏)‏ الذي خلق فسوى ‏(‏2‏)‏ والذي قدر فهدى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1-3‏]‏ فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى‏.‏

فإذا قلت‏:‏ المعروف أن العطف يقتضي المغايرة‏.‏

فالجواب‏:‏ نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على ان التغاير قد يكون لفظياً غير معنوي مثل قول الشاعر‏:‏

فألقى قولها كذباً ومَيْنا **

فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت‏:‏ جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، لاتغاير عيني، لو قلت‏:‏ جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت‏:‏ هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي‏.‏

واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن‏.‏

واستفدنا منها خمس صفات‏:‏ الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم‏.‏

واستفدنا من مجموع الأسماء‏:‏ إحاطة الله تعالى بكل شيء زمناً ومكاناً، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة‏.‏

فإذا قال قائل‏:‏ هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت‏:‏ الأول، فلابد أن تقول‏:‏ الآخر، أو‏:‏ يجوز فصل بعضها عن بعض‏؟‏‏!‏

فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت‏:‏ الأول، فقل‏:‏ الآخر، وإذا قلت‏:‏ الظاهر، فقل‏:‏ الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة‏.‏

‏{‏وهو بكل شيء عليم‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني‏:‏ ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم‏.‏

وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبداً، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه باواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن‏:‏ ‏{‏يعلم ما تسرون وما تعلنون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 19‏]‏‏.‏

إذاً، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء‏.‏

والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم‏:‏ كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وتوكل‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ التوكل‏:‏ مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي‏:‏ فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى‏:‏ التفويض إليه‏.‏

وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه‏:‏ صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة‏.‏

وصدق الاعتماد‏:‏ أن تعتمد على الله اعتماداً صادقاً، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به وعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه‏.‏

فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم‏}‏، حيث قالوا‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة، ‏{‏فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ‏(‏25‏)‏ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25-26‏]‏‏.‏

ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله‏.‏

والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، ‏{‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏

ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام‏:‏

أولاً‏:‏ أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضاً كاملاً في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حياً أو ميتاً، لأن هذا التفويض لا يصح إلا الله‏.‏

ثانياً‏:‏ أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في البيع والشراء ونحوهما‏.‏

{‏على الحي الذي لا يموت‏}‏‏(‏1‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو العليم‏(‏2‏)‏ الحكيم‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏على الحي الذي لا يموت‏}‏‏:‏ يقولون‏:‏ إن الحكم إذا علق بوصف، دل على عليه ذلك الوصف‏.‏

لو قال قائل‏:‏ لماذا لم تكن الآية‏:‏ وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو‏؟‏‏!‏

فالجواب‏:‏ أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات‏:‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏(‏20‏)‏ أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20-21‏]‏، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى ‏{‏وتوكل على العزيز الرحيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 217‏]‏، لأن العزة أنسب في هذا السياق‏.‏

ووجه آخر‏:‏ أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه‏.‏

وقوله ‏{‏لا يموت‏}‏، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يحلقها فناء‏.‏

في هذه الآية من أسماء الله‏:‏ الحي، وفيها من صفاته‏:‏ الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم‏.‏

‏(‏2‏)‏ سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء‏.‏

‏(‏3‏)‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ هذه المادة ‏(‏ح ك م‏)‏‏:‏ تدل على حكم وإحكام، فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذاً‏:‏ يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه‏.‏ ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة‏:‏

فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي‏:‏

فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين‏.‏

وحكم الله الكوني‏:‏ ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها‏.‏

دليل الحكم الشرعي‏:‏ قوله تعالى في سورة الممتحنة‏:‏ ‏{‏ذلكم حكم الله يحكم بينكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

ودليل الحكم الكوني‏:‏ قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف‏:‏ ‏{‏فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏، فشامل للكوني والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضاً محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة‏.‏

لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة مالا نعلمه، لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏‏.‏

ثم الحكمة نوعان‏:‏

الأول‏:‏ حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها، كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالباً لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة‏.‏

فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس المصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏، ففيها رد لقول من يقول‏:‏ إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته‏.‏

وفي هذه الآية من أسماء الله‏:‏ العليم، والحكيم‏.‏ ومن صفاته‏:‏ العلم والحكمة‏.‏

وفيها من الفوائد المسلكية‏:‏ أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهو العليم‏(‏1‏)‏ الخبير‏(‏2‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ العليم‏:‏ سبق الكلام فيه‏.‏

‏(‏2‏)‏ الخبير‏:‏ هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفاً أخص بعد وصف أعم، فنقول‏:‏ العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكوراً مرتين‏:‏ مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر‏.‏

وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلاً‏:‏ ‏{‏نزل الملائكة والروح فيها‏{‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏‏:‏ الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول‏:‏ الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفاً له ويكون النص عليه مرتين‏:‏ مرة بالعموم، ومرة بالخصوص‏.‏

وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى‏:‏ العليم، والخبير ومن صفاته‏:‏ العلم، والخبرة‏.‏

وفيها من الفوائد المسلكية‏:‏ أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفاً من الله وخشية، سراً وعلناً‏.‏